مجلس النوابالبرلمانمجلس المستشارين

You are here


الخطب الملكية

خطاب صاحب الجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للبرلمان : السنة التشريعية 1963 - 1964

> الإثنين 18 نونبر 1963

الحمد لله والصلاة والسلام علــى رســـــول الله

 

أيهــا السادة:

 

إن من دواعي اغتباطنا وابتهاجنا أن نقف في اجتماعكم هذا لنوجه إليكم خطاب الإفتتاح، قياما بواجب يلقيه على ملك هذه البلاد الدستور الذي ظفر بتأييد الأمة له ومصادقتها عليه، وليس الشعور الذي يخامرنا في هذه البرهة التاريخية من حياتنا الوطنية وفي هذه الآونة الفاصلة بين عهدين، شعور مسرة وارتياح فحسب، وإنما هو شعور تمتزج فيه الغبطة والإعتزاز والطمأنينة. إن الأحدات القياسية الأليمة التي أصيبت بها بلادنا إثر الهجوم على أراضينا والتي اضطررنا إلى مواجهتها بما يفرضه علينا واجب الذود عن كياننا والدفاع عن كرامتنا، وصيانة حوزة ترابنا، وصد الهجوم والعدوان،لم تصرفنا عن الخطة التي رسمناها لأنفسنا، ولم تحد بنا عن الطريق اللاحب الذي وطدنا العزم على سلوكه وانتهاجه، فلم يغب عنا - لحظة واحدة -ونحن جادون في مواجهة ما دفعنا إلى مواجهته دفعا وأكرهنا عليه إكراها، ان دستورنا الذي أسس ببلادنا نظام الملكية الدستورية يستوجب إقامة المؤسسات المنصوص عليها في فصوله وأحكامه، ويتطلب منا أن نقطع المراحل الضرورية في المواعيد التي يحددها لتنتقل البلاد من طور إلى طور، وتدخل أحكام الدستور ومقتضياته في حيز التطبيق والتنفيذ، وها نحن نخطو اليوم الخطوة الكبرى في سبيل اقامة صرح الديموقراطية، وتثبيت دعائمها وأركانها، وها أنتم اولاء مجتمعون تؤلفون أول برلمان أقيم فوق أرض هذا الوطن العزيز، يضم النواب والمستشارين الذين وقع اختيار الأمة عليهم ليمثلوها ويقوموا مقامها في الدفاع عن مصالحها، ويعبروا عن آمالها وآلامها ورغائبها ومطامحها، فالحمد لله الذي أنار لنا السبيل، ومهد لنا المسالك، فحققنا على الرغم مما اعترض طريقنا من صعاب ما كنا إليه نتوق، وأنجزنا ما كنا إليه نتطلع وعليه نحرص.

 

أيهــا الســـادة:

 

لئن كان عهد والدنا رضوان الله عليه عهد كفاح مرير، ونضال منقطع النظير، أراد العاهل الراحل من ورائهما كسب معركة الاستقلال والتحرير، واسترجاع ما كان لهذه البلاد من مجد أثيل، وعزة طفحت بها صفحات تاريخنا الطويل، فإننا بعد ما أنجح الله مساعيه الحميدة وكلل بالفوز والظفر جهوده المجيدة، أخذنا على نفسنا أن نصل من عمله ما قطعه المنون، ونتم من بنائه ما شرع في تشييده وتدعيمه، فانصرفت همتنا إلى اقرار نظام الملكية الدستورية، وتتويج ما أنجزه والدنا المقدس طيب الله ثراه، فلقد أقام أسس الديمقراطية بسن القوانين التي تكفل للأفراد والجماعات ما حرموا منه زمنا طويلا من حريات وحقوق اجتماعية، وبت في جميع أنحاء المملكة مجالس الجماعات القروية والحضرية، وبهذا تضافرت جهود جيلين، وتكاتفت مساعي عصرين، وأتى اليوم صالح الأعمال ثمرات غرسه، فلم يبق علينا جميعا إلا أن نوالي جهودنا المحمودة، ونواصـل مساعينــا المعهـودة ، لتظل ثمرات غرسنا يانعة طيبة، وتتحقق الفائدة المرجوة من النظام الذي أسسناه، والصرح الذي أقمناه فليس بغائب عنكم أن نظام الملكية الدستورية لم نشيد بنيانه لدواعي إيمان راسخ فحسب، ولاكننا أقمناه أيضا ليكون للدولة إطارا جديدا للعمل، وأسلوبا فعالا للانجاز.

 

وليس بعازب عن أذهانكم فوق هذا أن دستورمملكتنا يحدد تحديدا دقيقا ما لمختلف سلط الدولة من اختصاصات، ويبين تبيينا لا لبس ولا غموض ما يجب أن يكون بين مختلف هذه السلط من علاقات، ويقر بينها توازنا خليقا بضمان استقرار شؤون الدولة وأوضاعها، ولهذا فإن من شأن كل اختلال يصيب هذا التوازن أن يعرض الأوضاع التي يحسن بها الاستقرار والاستتباب إلى القلق والاضطراب، وعلينا أن نثير انتباهكم - حضرات السادة - إلى واجب المحافظة على هذا التوازن، ونحضكم على ملازمة السير في الطريق الذي سنه دستور البلاد، ومواصلة انتهاج محجته البيضاء، فبابقائكم على هذا التوازن ومحافظتكم على هذا التعادل، تجلبون للبلاد كل خير، وتجنبونها كل شر وضير.

 

ولن يفوتنا بهذه المناسبة أن نذكركم بأن الملوك الذين تعاقبوا على عرش هذه البلاد كانوا يمارسون طيلة قرون طائفة من المهام عن عادة من اختصاص الملكية المطلقة، أما نحن فقد أبينا إلا أن نتنازل بمحض اختيارنا وطوع إرادتنا للأمة من جملة من هذه الاختصاصات مقتصرين على المهام التي يزاولها رؤساء الدول في البلاد الديمقراطية، ولم نقف عند هذا الحد، بل أبينا إلا أن نلقي على كاهلنا التكاليف التي تعلمونها والتي ينص عليها دستور مملكتنا، من ذلك ضمان دوام الدولة واستمرارها واستقلال البلاد وصيانة ترابها، وحماية حمى الدين، والسهر على احترام الدستور، وصيانة حريات المواطنين والجماعات والهيئات ورعاية حقوقهم.

 

أيهــا الســـادة :

 

إنكم ستشرعون بعد اجتماعنا هذا بحول الله وقوته في العمل الذي أناطه الدستور بكم، تشد أزركم وتوطد عزائمكم الرغبة في القيام على أحسن الوجود بالمهام التي تشعرون ولا شك بجسامتها، ولنا اليقين أنكم تدركون أهمية المرحلة التي انتقلنا إليها منذ اليوم، كما أننا مومنون بأن اهتمامكم سيتوجه إلى القيام بأعمالكم المقبلة بكل ما تتطلبه هذه الأعمال من جد وتفان و إخلاص، تحدوكم دوافع رعاية مصالح البلاد، وان من أكد ما نرغب فيه أن يسود جو التفاهم والوئام بين البرلمان وباقي أجهزة الدولة، وأن يتحقق ما نرى فيه نفعا للأمة بتعاون شامل مثمر بينكم وبين المسؤولين في الجهاز الحكومي.

 

وغير خاف عليكم أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، وأن تعاليمه السامية تقتضينا ان نتمسك بالقيم الروحية التي جاء بها و حض عليها، وأن نجعل منها عمادا لسلوك كل فرد منا في حياته اليومية سلوكا يتسم بمكارم الأخلاق والآداب المثلى، ونبل السجايا عملا بقوله تعالى :( ولـو كنـت فا غلي القلـب لانفضـوا مـن حـولـك ) وقوله جل من قائل (ولا تصر خـدك للناس ولا تمش فـي الأرض مرحـا).

 

أيهــا السادة:

 

إننا لننتهز هذه المناسبة لنقدم إلى أعضاء البرلمان تهانينا لما أحرزوه من ثقة من لدن ناخبيهم، ولنا الأمل الوطيد أن يكونوا أهلا لهذه الثقة بحسن ظن الذين زودوهم بها، و أناطوا بهم النيابة عنهم.

 

وإننا إذ نعلن افتتاح أول دورة للبرلمان ندعو الله تضرعا وابتهالا أن يبعد عن وطننا المكايد والمكاره، ويقيه البأساء والضراء كما ندعوه سبحانه أن يوفق أعمالكم ويسدد خطاكم ويوجهكم الوجهة الصالحة، ويهديكم إلى سواء السبيل، ويحقق على أيدينا جميعا ما نطمح إليه ونرجوه لهذه البلاد من عز ورفاهية ورقي مطرد، وطمأنينة و أمن وسلام.

 

فلتسيروا على بركة الله، رائدكم على الدوام الاخلاص لله والوطن والملك، (وقـل اعملــوا فسيــرى الله عملكـــم ورسولـــه ) (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح في ذريتي، وإني تبت إليك وإني من المسلمين).

 

صدق الله العظيم